قصة الدكتور : ابراهيم صبيح من دكاترة الاعصاب بالأردن
الدكتور : ابراهيم صبيح من دكاترة الاعصاب بالأردن
حضرت والدتي من الأردن برفقة شقيقتي لزيارتي وأنا في السنة الأولى في كلية طب الاسكندرية .
كان هدف الزيارة طبي في المقام الأول فشقيقتي التي كانت تبلغ العاشرة من عمرها في ذلك الوقت ، عانت من تشنجات عصبية أصابتها منذ الولادة .
دخلت أنا كلية الطب تحقيقاً لرغبة والدتي ، ربة البيت التي كانت تغسل ثياب اولادها بيديها ، وتحقيقاً لرغبة والدي سائق الشاحنة الذي كان يتمنى أن يرى ابنه طبيباُ ، وتحقيقاً لرغبة شديدة عندي في المشاركة في علاج شقيقتي المريضة .
لم أستطع أنا طالب السنة الأولى في كلية الطب مرافقة والدتي إلى القاهرة لزيارة الطبيب فرافقتها إحدى قريباتي في رحلة القطار من الاسكندرية إلى القاهرة .
جلست والدتي مع قربيتي وشقيقتي في العيادة الواسعة الفاخرة التي تعج بحشود المرضى اللذين جاءوا كي يتم علاجهم على يد الطبيب القاهري الذي كان (رحمه الله) في السبعينات من القرن العشرين ، أشهر طبيب مصري في مجال جراحة الدماغ والأعصاب الانتظار في العيادة يمتد لساعات ، ووالدتي تجلس تتابع المشهد وهي في حالة قلق و فجاة تدخل إلى العيادة سيدة أنيقة تلبس حذاءً لامعاً وتحمل في يدها شنطة ذات لون يناسب لون معطف الفراء الفاخر الذي كانت ترتديه !
تجتاز السيدة الأنيقة حشود المرضى والمراجعين وتفتح باب غرفة الفحص وتغلق الباب خلفها بهدوء .
احتج المرضى المراجعين ومنهم والدتي على ماحدث فخرج الطبيب ليعتذر لهم قائلاً : هذه السيدة التي دخلت عندي ليست مريضة بل هي والدتي التي حضرت لزيارتي في أمرٍ خاص ..
أتمت والدتي زيارتها للطبيب الذي عاين شقيقتي ووصف لها الدواء المناسب ورجعت والدتي من القاهرة حيث كنت في استقبالها في محطة سيدي جابر بالاسكندرية ، وخلال توجهنا بالتاكسي من محطة القطار إلى شقتي المتواضعة أخبرتني والدتي عن نتائج زيارتها الطبية وحدثتني عن تلك السيدة الأنيقة ثم نظرت إلى الأفق البعيد من خلال زجاج السيارة وقالت :
أتضرع إليك يارب السماوات والأرض أن تجعل ابني طبيب أعصاب معروف وأقوم انا بزيارته في عيادته يا قادر يا كريم ..
لم تتحدث معي والدتي عن الموضوع بعد ذلك الحين ، ولكنني حملت حلم والدتي في قلبي وعقلي ..
تمر السنون وأتخرّج من كلية الطب وأسافر إلى بريطانيا للتخصص في جراحة الدماغ والأعصاب ، ويتم تعييني أستاذاً مساعداً في كلية الطب بالجامعة الأردنية في منتصف الثمانينات بعد مرور أربع سنوات من خدمتي في كلية الطب ومستشفى الجامعة الأردنية .
اخترت يوماً لتحقيق الحلم طلبت من أخي أن يحضر والدتي إلى عيادتي بحجة عمل فحوصات مخبرية ، في الوقت الذي تكون العيادة فيه مزدحمة بالمرضى والمراجعين الذين يجلسون في صالة الانتظار حيث يفصلهم عني باب العيادة الذي تحرسه السكرتيرة جيداً .
طلبت من أخي أن يقنع والدتي بأن تتأنق وهي تزور ابنها في العيادة حيث حضرت وهي تلبس معطف الفراء الذي اشتريته لها من بريطانيا قبل ذالك بعام ، ومعه كانت تلبس حذاءً لامعاً وتحمل شنطة يد تماثل لون معطفها .
طلبت من السكرتيرة أن تخبرني عند حضور والدتي وأن تبقيها خارج باب العيادة ، خرجت لاستقبال والدتي واعتذرت للمرضى أن هذه السيدة ليست مريضة بل هي والدتي جاءت لزيارتي في أمرٍ خاص .. قمت بإجراء الفحوصات المخبرية لوالدتي التي عادت مع أخي الى المنزل ..
أنهيت عملي مبكرًا في ذلك المساء وعدت إلى الزرقاء حيث استقبلتني والدتي كعادتها بترحاب بالغ ، بعد تناول العشاء طلبت والدتي أن تجلس معي لوحدي .. قالت : أتعلم يا ابني أن الله سبحانه وتعالى قد حقّق لي اليوم حلماً ، وبدأت تحدثني عن تلك السيدة الأنيقة في القاهرة وكأنها تحدثني عنها لأول مرة فقد نسيَت تماماً أنها قد أخبرتني عنها في تاكسي الاسكندرية قبل ثمانية عشر عاماً .
بكت والدتي وأبكتني ، فوالله لم ار وجه امي بهذا النقاء وهذه الروعة مثلما شاهدته في تلك الليلة وجه أمٍ راضية قانعة حقّق الله لها حلمها .
تمر السنون وأسافر بالامس لحضور مؤتمر طبي خارج الأردن يتصل بي أخي ليعلمني بوفاة والدتي التي بالرغم من أنها سلمت روحها لبارئها إلا أن عيونها بقيت مفتوحة .. كان تفسير أحدهم أن لدى المرحومة أحد الاقارب المسافرين ... رجعت الى الاردن حيث قبّلت وجهها وكانت عيونها لازالت مفتوحة ووجهها البهي يشع بالقناعة والرضى .
قلت لها : وداعاً ... يا قطعة من روحي أقسم أنها كانت مغمضة العينين عند دفنها .
رحمك الله ياوالدتي
تعليقات
إرسال تعليق